welcome

بحث هذه المدونة الإلكترونية

حديث الظل ..



 ______ 1________
في السابع والعشرين من الشهر العاشر في السنة الثامنة بعد الألفين ..

كان الشتاء لايزال غضا..
في السادسة تقريبا
قصفت عيون الليل بقايا أشعة النهار الملتفة على احدى الاستراحات المختبئة في شارع قليل   المارة ..
حاصر دخان المدينة الضجر  .. وعيوني كانت تلفظ آخر انفاسها فوق مقعد عذبه المارة حتى كاد يحتضر..
نظرة وغفوة كانا يتقاسمان الدقائق المحاصرة فوق هذا المقعد .. والام الجسد قد بلغت ما بلغت فصارت قيدا محكما يجبرني على البقاء أطول في رفقة الوحدة ..حقيبتي الممتلئة بأوراق تثبت حقوق الشركة عند بعض العملاء وبعض النقود هما ما كانا يشغلاني في هذه اللحظة ..نصف ساعة تقريبا قضيتها في هذا المكان ..

نفضتُ عن نفسي غبار السكون .. وانصرفتُ الى وجهتي حيث الميعاد في صيدلية في شارع قريب ..خطوات ميتة على طريق قد سئم الحياة والاحياء ..ابواق السيارات لا تتوقف عن النباح بسبب او دون سبب ..
وأمطار الصخب لا تتوقف عن امداد الأرض بما يشبع جوعها المستعر منه ..

" السلام عليكم "
كيف حالك يا دكتور؟ ..
كلمة من هنا وكلمة من هناك .. كلمات نسجت حديثنا المعتاد والمكرر ..أخذت بغيتي وانصرفت بعد التأكد من العدد ..ودعتُه وهو غير آبه بالقدوم او الوداع ..لم يلفت نظري في المكان الا هذا الوجه الذي يبدو عليه علامات الغضب والشر كان يحدق فيّ وانا اخرج من الصيدلية ...لكن ثمة سيارة مسرعة كادت ان تتسبب في كارثة في الشارع هي ما منعتني من استمرار التفكير في امر الرجل..
وجهتُ نفسي الى موقف السيارات .. المحطة الأخيرة التي أرتادها اليوم .على بعد أمتار من الموقف انتظرت ..اشير الى السيارات وكأنها الامنيات لا تعبأ بالإشارة ..دقائق مرت ولا جدوى من هذا ..من بعيد لاحظت نفس الوجه ..لكني صرفت عن نفسي شعور أني مراقب ..ربما الصدفة وحدها القته في طريقي وألقتني في طريقه ..لكن شعور بالقلق يتسلل الى عقلي لا استطيع ان امنعه..
أخيرا توقفت سيارة لم يحملني الى ركوبها الا الاحساس بانها فرصتي الأخيرة رغم ان الوقت لايزال مبكرا ..لا اعرف اين ذهبت السيارات ..القيت نفسي على مقعد بجوار زجاج السيارة ..وانطلقنا.. ..
على بعد كيلو متر تقريبا عرفت السبب ..حملة أمنية من رجال المرور ..دفعت السائقين للاختفاء ..ثمة هاجس دائم عند المصري انه مذنب حتى وان لم يكن أذنب ..احساس دائم بانه سيتم تغريمك اذنبت او لا ..لذا يفضلون الهروب من الغرامة الأكيدة...
ثرثرة صفراء تحيطك دائما في المواصلات ..اخبار من هنا وهناك ..في السياسة عن الجيران ..في الطب وعن المواقف الطريفة في حياة البعض ..صداع يحمل صفة الكلام .. يحيطك من كل جانب.
على ضوء الكشاف داخل السيارة المزدحمة بكل شيء يمكنك ان تتقدم ولو سطور في كتاب تتابعه ..داخل الحقيبة ارسلتُ يدي لتبحث عن كتاب ل" باولو كويلهو " ذلك الشقي كم أخذ مساحة من حديثي معها ..لطالما أحبتْهُ ..أتذكر هذا الحديث الطويل عنه ..لم أكن أعرفه من قبل ..كانت دائما تحاصرني هذه الصغيرة بعقلها ...ذات مساء التقيت بها في نادي قريب من بيتي ..لكني لم أكن أعرف انه بوسع مساء واحد ان يمنحك عمرا كاملا ..كنت فظا معها في هذا اليوم ..فقد اسقطت كل ما في يدها من الشاي حين تعثرت  على قميصي ..كم غضبت من هذا .فكنت بانتظار صديق لي وقد تأخر حتى ملكني الضجر وقد زادت هي الامر ضيقا ..كسا وجهها الخجل ..والحيرة قد رسمت كل ملامحه ..اعتذرَتْ كثيرا.. وانصرفتْ.. لكني لم أنس هذا الوجه..
بعد أسبوع تقريبا شاءت الأقدار ان نلتقي مجددا ..كانت برفقة صديقة لها ..ما ان رأتني حتى ابتسمتْ ابتسامة خفيفة ..ثم التفتتْ نحو صديقتها ..
     على مقعد قريب منهم جلستُ اقلب في اوراقي  ..بعد قليل  وجدتها تتجه نحوي  ..جاءت تكرر أسفها عما حدث.. لم أكن أسمع حديثها لكني كنت أراه ..كانت عذبة جدا ..قررتُ ان انتصر على هذا الصمت .دعوتها وصديقتها لتناول مشروب معي ..سعدتُ بموافقتها ..طويتُ الاوراق بسرعة واخفيتُها داخل الحقيبة ..وانتظرتُ قدومهما ..من هنا بدأتْ داخلي ..كشفتْ لي اشياء قليلة عنها ..منها انها تأتي في نفس الموعد كل أسبوع وهذا كان كافيا جدا حينها ..تعددت اللقاءات ..وصار الوقت في حضرتها أمنيتي الوحيدة ..فان جرحا في قلبي من تجربة قديمة كنت أغتسل منه بماء حديثها الناعم ..
" تَعَـلَّم من أحد ما مر من هناك ..فمهما رأيت نفسك فريدا ,هناك دائما أحد ما حقق الحلم نفسه " ها هنا توقفت ..سطور قليلة وجاء المصير ..طلبت من السائق التوقف ..نجوت بأعجوبة من السقوط على وجهي ..دائما ينتظروك لتركب لكنهم بعد ان تدفع لهم أجرهم ودوا لو قذفوك من الشباك ..ليضعوا مكانك راكبا آخر ..

_________ 2  _____
في  مقهى قريب من البيت ..لسوء حظي كان يجلس أحد الاصدقاء ..رآني وأنا اتسلل الى بيتي ..ناداني بصوته الجهْوَري كم تمنيت  لو أني استطعت الهرب ..فالتعب قد بلغ مبلغه ..أجوب الشوارع من العاشرة صباحا ..وأقدامي قد صارت قطعة من نار ..لكن لا مفر ..كعادته حلف بالطلاق امام تمنعي واعتراضي ..اضطررت للجلوس ..ونادى على الجرسون ...طلب لنا قهوة ..
وبدأ يدير الحديث كعادته وانا احرك راسي حركة خفيفة استجابة لثرثرته ..أحب من يتحدثون كثيرا ..
لا يجعلونك مضطرا لأن تتحدث.. فقط تستمع ..فأنا اعاني من مشكلة قديمة في الكلام  ..
لم يجذب انتباهي في كل هذا الامر الا الحدث الذي قال ان الجميع يتناقلونه  ..قتل في شارع قريب ..وعربات الشرطة تدور في الشوارع من الصباح ..لكن لا املك الطاقة للمضي اكثر في التفاصيل ..كان لي حق انهاء الحوار ..الورقة الرابحة الوحيدة التي امتلكها الآن ...ودعته وانصرفت مسرعا الى بيتي بعد ساعة تقريبا في المقهى
----
عشر دقائق هي المسافة الاخيرة بيني وبين الوطن ..الوطن الصغير ..بيتي ..

" هنا القاهرة " الساعة الآن الحادية عشرة والنصف ..
   ..هكذا صرخ الراديو فوق اريكة حارس العمارة... هذا الرجل الضعيف هو بحاجة لمن يحرسه ..لعن الله الفقر ..
اشرت اليه ..مسلما وابتسمت له ابتسامة خفيفة ..وبدأت اقطع الدرج المؤدي الى الشقة في الدور الثالث ..أمام الباب كالعادة وقفت أقلب في جيوبي  باحثا عن المفتاح ..اخيرا وجدته ..
-------
نامت وهي جالسة على المقعد ..لم تشعر حتى بدخولي ..فهي لا تستطيع الذهاب الى فراشها ابدا الا اذا حضرت ..
" أمي ..أمي "
ايقظتها بقبلة خفيفة على رأسها ..وطلبت منها الذهاب الى فراشها ..
على حائط غرفتي " طفل جيوفاني براغولين " ..الطفل الباكي ..ضيف كل البيوت المصرية تقريبا ..لو تم تذييل اللوحة باسم صاحبها لصار من أشهر الرجال في مصر ..لم أعرف اسم صاحبها الا مؤخرا ..وانها قد احرقت بيوتا كثيرة في بريطانيا ..قصة غريبة صارت اللوحة  العامل المشترك في كل صفحاتها.. ففي عام  1985 نشرت جريدة الصن البريطانية سلسلة من التحقيقات عن
حوادث اندلاع نار كثيرة وغامضة كان البطل فيها هذه اللوحة ! ..
لا أعرف لما يتهمونا بالرجعية وهم يحملون أفكارا غريبة ..ربما تزيد عن تخلفنا ..
..مهدت الفراش ..وألقيت جسدي فريسة للموت برغبتي ..

كل الاشياء تتداخل ..يصبح النهار صحيفة متشابكة الكلمات ..متداخلة الأحداث ..
هذا النقاش في احدى الصيدليات التي مررت بها اليوم لازال حاضرا في ذهني
.".أوباما ام جون ماكين " ..لهيب الانتخابات الامريكية قد وصل الى طرف السنتنا ..وكأننا نملك الحق في الاقتراع ..يقولون ان الفتى الاسمر أوباما بأصوله الاسلامية يحمل الخير لنا وانه سيكون افضل كثيرا من سابقه ..وددت ان اضرب هذا اللوح الزجاجي أمامي بيدي وأصرخ في وجوههم بأن " الكفر ملة واحدة   يا اغبياء "..حماقة لا تنتهي قلنا نفس الكلام عندما تولى بوش ..واذا به يعيث فسادا فينا...
مزق العراق ..بعد ان حاصروها طويلا ..كنت أتمنى ان يصبح  العراق بسبب الحصار  مثل ايران ..يصبح  أقوى ..لكنه للأسف انهار ..
وهم يقتلون أطفالنا في أفغانستان صباح مساء ..ونظن بهم خيرا ..ويل لنا ..

ما أسوأ النوم ..كل هذا التعب وأخاف أن أنام ..فهذا الحلم الذي يراودني من ثلاثة شهور تقريبا لايمل من مطاردتي..لا حل أمامي إلا المنوم ..
تحسست بيدي تحت الوسادة باحثا عنه .. ها هو.. ساعات قليلة فقط املكها وبعدها أسافر الى موطني الأصلي القرية التي ولدت وتربيت فيها لحضور زفاف احد الأصدقاء..

تملك النوم مني ..ارتخى جسدي ..وحاصرني الموت من كل اتجاه ..
-----
""عينان تائهتان في الألوان خضراوان قبل العشب زرقاوان قبل الفجر تقتبسان.........
بصوت درويش نادى منبه التليفون .. ليعلن تمام الساعة الثامنة صباحا ..انتفضت من فراشي ..وبدأت في الاستعداد للعرس ..
صلاة فإفطار ..تبعه تغيير ملابسي ..ثم انطلقت..
________ 3 ____
على الرصيف بائع الجرائد قد القى بضاعته لموج الريح والمارة ..
لمَ نشتري هذه الصحف؟!!.. قد صارت كل صفحاتها حوادث وكوارث ..من الأولى حتى الأخيرة ..سياسة من الرصاص ..واقتصاد قائم على الاستغلال والسرقة ..و اخبار عن مجاعة عند جيراننا .. ومرض يفتك بدولة كذا ..واغتصاب و قتل و.. و ... .
ربما يشتريها البعض تحت مظلة " لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها " 
إلى جانب بائع الهموم ..يجلس صاحب هم ..قد أسلمته الحاجة للرصيف يمد يده للرائح والغادي فيمطرونه صمتا واعراضا ..او يسقطون في يده القليل ..
وحسناوات يمزقن وجه الملل في وجوه بعض الشباب الذين انتظروا الاتوبيس الذي لا يأتي الا مزدحما ..لاشىء في بلادي غير مزدحم  ..جيوب السلاطين يملؤها المال ..وصدور الملايين يملؤها الهم ..
و" الطابور " سيد الموقف ان حالفك الحظ ..

من بعيد تشق هذه الدابة الحديدية غبار انتظارنا وضجرنا من الزمن الممدد على ارصفة الملل ..وكأن حربا قد أعلنت ..وموتا قد دق طبوله ولا نجاة الا داخل الاتوبيس . فالكل  يصارع للبقاء على قيد الحياة ..في هذا الزحام تصبح قاب قوسين أو ادنى من جريمة أو فضيحة ..بالطبع لن يصدق أحد أنك بريء إن صرخت احداهن متهمة اياك بسوء الأدب ..
أو دون قصد مشيت على قدم هذا الشاب المعتد بنفسه ..لقد سمعته يسب شخصا لأنه داس حذاءه اللامع..

عن يميني  ..لوحة ملت من الألوان لرسام أعمى ..فتاة وضعت وجهها داخل علبة المكياج ...
ووضعوها داخل ملابس اختها الصغرى ..تشعر وانت جوارها بالغربة والقلق ..
كثيرة هي الأمنيات التي ننفقها على مواقف لا يفترض ان تكون في دفتر يومياتنا ..منها ان تخرج بسلام من هذه العلبة..
" تذاكر ..تذاكر يا بيه "
سمرة خفيفة , وجسد قد انبرى من كثرة الاحتكاك بالزحام  وعملة فضية في يده تصرخ على جسد الاتوبيس للتنبيه والتذكير بوجوده..
اظن ان العام الأول في هذه المهنة وداخل هذا التابوت يحتاج لمعجزة للصبر عليه ,
جاءت الساعة ..واسبحتُ ضد التيار الى باب الاتوبيس ...وأنت تركب ما عليك الا ان تصل للباب وتترك جسدك ..ستجد نفسك في الداخل ..أما في النزول فانك تصارع لتقذف جسدك في الخارج ..
أعدتُ ملابسي الى وضعها الطبيعي _من الرائع أن تخرج بها سليمة _
 ووقفتُ أنتظر الوسيلة التالية ..
إلى الريف .. ورائحة الخضرة ..الى الوجوه السمراء والسواعد الفتية ..ظهور محنية تصارع لتشبع شبق الأرض الثائرة.. ومعاول لاتكل من أكل التراب ..
لا شيء يبدد هذا الفرح في هذا الوقت من العام الا سحائب الدخان تلتف حول المنازل والصدور ... دخان تسمع صوته وتعانق رائحته وسط هذا الهدوء الممل أحيانا
...السحابة السوداء كما يسميها الاعلام ..ومسئولون لطالما نددوا ووضعوا عقوبات لاتسمن ولا تغني من جوع  ..

من اربع سنوات تقريبا_ قبل الرصف_ ..كان المطر يشكل كارثة على هذا الطريق ..
مطر متوسط وسقوط خفيف يعني ان تتحول ملابسك للوحة فنية معقدة بريشة الطين
.الظلام هو العملة الوحيدة المتداولة ليلا فيه ونباح بعض الكلاب ..وخوف أم لطالما قالت .." لا تتأخر " ..
الكشافات المزروعة على جانبي الطريق رآها الفلاحون نبتا " شيطانيا "_ كما يقولون احيانا عن النباتات الغريبة  التي تظهر في حقولهم لتفسد عليهم مزروعاتهم _ فحصدوها ..سألت مرة عن سبب تكسيرهم لهذه المصابيح على الطرقات فأجابوني بان الضوء ليلا يتسبب في شيخوخة سريعة للنباتات ..
الى المهد وجهت وجهي ..الى بيتي القديم في بطن القرية ..في مدخل القرية نهايتنا ..المقابر هي أول ما تلقاه .. لقد صارت القرية قبرا لكل الجمال في حياتي فيها يرقد أبي ..وفيها ترقد طفولتي وبعض شبابي ..
على باب البيت .. استحضرت الذاكرة بعبرة .
ليتهم ابتكروا لنا آلة تعيد الماضي ولو لثوانٍ ..رائحة المكان أعادتني إلى طفولة عذراء
 ..
 هنا مر الزمان قصيدة
 لم تنحنِ لعذابي
.. هنا مهد الزمان
..  طفولتي
وبراءة الأحلام قبل شبابي
ابي مازال طيب حديثه
وفكاهة الاصحاب والأحباب
ما زلت طفلا غير أن طفولتي
قد هدها قبل العذاب غيابي
أماه ردي للطفولة روحها
ورتلي أماه صعب كتابي
عطر الطفولة يفوح فوق دفاتري
ونشيدها ذائب برضابي

قررت ان ارتاح قليلا من عناء السفر ولهيب الذاكرة على فراشي القديم ..
قبيل العصر ...صارعت الزغاريد نومي فذبحته .. في الريف كل الأصوات واضحة قريبة .. من الممكن ان تسمع بكاء طفل جارك ..صوت التلفاز في بيته .. غضبه على أولاده ..لا صخب يبدد سكون الليل ..العالم هنا لم تصله بعد ثورة المدنية وانقلاب الليل على النهار ..

تهيأت للخروج ..
في شارع قريب ..هذا العرس المنتظر ,لمبات ملونة وكراسي على جانبي الشارع , ومسرح خشبي صغير قريب من بيت العريس وزغاريد هنا وهناك  .
قدمتُ التهاني ..وعناق بارد للعريس ..صديقي القديم  
 .وسط ترحيب من الاصدقاء والجيران .....لكني رأيتُ في عيونهم جميعا ...حيرة تكاد تقفز على السنتهم " مالذي أتي بي ..بعد الذي كان ؟!! "

عدت الى البيت منتظرا الفرح .. بعد العِشاء بدأت الليلة.. لكن العيون الراقصة والزغاريد المدوية تحولت بعد عشر دقائق لصراخ ونحيب !!


          ____________4________
بعد مرور ثلاثة أيام ...
 " كان الضوء خفيفا يتسلل في خجل من النافذة المحاصرة بالستائر المفتوحة قليلا   ..وهو يقف أمامها يقلب النظر في شارع حافل بالجنود وعلى المنضدة  .. مجلدات ..وأوراق كثيرة ..ولوحة صغيرة تحمل اسمه وصفته .. على الطرف الايسر من المنضدة يتكئ كاتبه بإحدى ذراعيه ...وبالأخر يسجل انفاسنا بقلمه .. الساعة على الحائط وحدها تشعر بالزمن في هذا المكان .. وصوت البندول يصيب المكان بالقلق .. وانا تدور الدنيا بأكملها في رأسي "
" باغت المحقق السكوت  "
ما قولك فيما هو موجه اليك من تهمة التحريض على قتل السيدة اسماء محمد في ليلة زفافها ؟
لا يملك المرء في هذا الموضع فعل أو لم يفعل الا النفي .. تنهيدة طويلة تحمل حرارة صدري بكل ما فيه من الألم..
"لا صلة لي بالأمر , قلت هذا مرارا " ..أجبته
وهو غير مكترث , خلع نظارته وأخرج منديلا من جيبه ,وقام بتنظيفها : ..
"  لكن المتهم زهران سالم قال انك من قمت بالدفع له وتحريضه لطعن المجني عليها " هكذا قال المحقق
عيون شاردة وفم تعب من كثرة النفي وسؤال يتبعه سؤال والاجابات يغزوها الخوف من جدران السجن ..
" هذا الرجل ..لا صلة لي به ..هو قد وفد إلى القرية قريبًا ..
هذا ما سمعته من الناس ..فأنا انقطعت عن القرية من فترة طويلة

لم يقتنع بإجابتي ...لطم المكتب بيده لطمة أزعجتني .. وقال بصوت مرتفع شيئا أذهلني .." هو يعرف عنك كل شيء ..أين تسكن ..متى تخرج في الصباح الى عملك ..اين تعمل ..متى تعود ..اين تتسامر مع اصحابك ..لقد اعترف بكل شيء "

كانت الأفكار في رأسي اشبه بلغز الكلمات المتقاطعة ..أقلب الوجوه ..والأقوال ..لكن الصراخ في الفرح عندما خضب الدم الفستان الأبيض يعاصر  كل هذا لا يختفي أبدا. ..كذلك خوف هذا الأربعيني الذي نجا بأعجوبة من سواعد الشباب الذين كانوا سيعدمونه على الفور ..ياليتهم فعلوا ..لم يكن هذا حالي الآن ..

.وجه هذا الأربعيني المجرم .يذكرني بشيء ما

" إنه هو ..هو .ويلي.. كيف نسيت ..هو من  كان يراقبني ليلا عندما خرجت من الصيدلية قبل اربعة أيام"

بصوت يحمل بعض الفرحة .. قلت " لقد تذكرت "
جذبت ذاكرتي عيون المحقق ..وترك الأوراق التي في يده ..وضعها على  المنضدة بهدوء ..ثم قال لي .." أي شىء تذكرت ..اعترف ..هل تعرف هذا الرجل ..هل حرضته ..هل.....؟؟
قلت بسرعة ..قاطعا كلامه : " لا ..لا ..لقد كان يراقبني ..من اربعة ايام تقريبا لاحظت ذلك "
وكأن كلماتي سراب لامع اشعل عطشه ثم انطفأ على حرارة رمالي ..ارتد إلى ظل هدوئه يقلب في اوراق القضية وكلام الشهود

تابعت الكلام دون اكتراث بما يفعله " وهذه المكالمة ..اتذكرها ..الآن فهمت ماذا قالت أسماء ..
قال دون ان ينظر إلى وجهي : عن أي مكالمة تتحدث ؟؟
 تابعتُ .. من عام ونصف تقريبا انفصلتْ عن أسماء .. لقد خطبتها لمدة عام ..كانت حلم المراهقة الجميل وجارة الطفولة ..كانت رفيقتي في الدراسة ..كانت هي الحياة اذا الحياة تبسمت ..وهي الشفاء ان الحياة تقلبت وكشرت عن انياب اوجاعها وآلامها ..كانت كل شيء.."  

 "بدا على وجهه الغضب من ثرثرتي عنها "
لكني تابعت...
ذات يوم وانا في زيارة للقرية رأتني اسماء واقفا امام بيتي مع جارة لي  .. تطلب مني بعض المستحضرات التجميلية ..كنت احضرها لهم بثمن أقل  ..  طالما تحدث الرجال في القرية عن جمال هذه المرأة  ... لقد كانت سببا في غضب الكثير منهم على نسائهم ..كنا نتبادل الضحكات بصوت واضح ..لا يمكن للمرء ان يكون حجرا امام كل هذه الفتنة ..كذلك اسماء لم تكن حجرا امام غيرتها التي احرقت الاخضر واليابس في علاقتنا ..تحدثنا الى ان حدثنا الفراق ..انتهي الامر معها ..تركت القرية غاضبا عازما ألا اعود اليها حتى انسى أسماء..
بعد خمسة أيام تقريبا ..اتصلت أسماء ..لم يكن بوسعي ان اتجاهلها ..لربما كان امرا خطيرا ..وإذ بها تروي لي قصة غريبة ..ان جارا لها يكبرها في السن كثيرا ..
.قد تقدم لخطبتها.. قالت لي انهم لا يعرفون عنه اي شيء, لقد جاء للقرية من فترة قريبة  .. رفض اهلها طبعا ..
لا اعرف لما تحكي لي عن هذا!! ..لقد كتبت نهايتي معها وعزمت على عدم العودة ..لكنها قالت أيضا
انه اعترضها في الطريق .. مصرحا بحبه لها ..لكنها عنفته واخبرته انها مرتبطة بي ..فاقسم لها بان ينتقم مني ومنها..
"اقول لك هذا خوفا عليك " هكذا ختمت حديثها ..شكرتها كما عابر سبيل يقول شكرا لأحد المارة في طريق حين أرشده إلى هواه ..لم آخذ كلماتها على محمل الجد ..شعرت انها زادت على الحدث لتعبد الطرقات بيننا مجددا  
يمسك المحقق طرفي قلمه بين يديه ...ويلفه بأصابعه .. وينظر لي نظرة خرساء ..لا اعرف كنهها ..كم أنا أشعر بالخوف والقلق من المجهول
لقد قال لي صديقي حين رايته ينتظر في الطرقة ..أن أمي احضرت محامي لكنه لم يتمكن من فعل اي شيء ..باليتني مت قبل هذا ..ما اتعسني ..كيف هي الآن؟؟! ..اني في حاجة اليها ..
قطع صمتي وشرود ذهني سؤاله : "هل تظن ان هذه القصة تنجيك ؟؟..هي دافع من دوافع القتل ..قررت أن تقتلها لأنها تركتك وتزوجت غيرك ..صديقك "
بهدوء ..اجبته..:
لو قتل كل رجل خطيبته السابقة لما تبقى على الأرض نساء ..هي امور تحدث يوميا ..لست أول من هجر حبيبته او انفصل عن خطيبته او طلق زوجته ..العالم تحت أمطار الفراق ..وعواصف الوداع "
" إذن لماذا ذهبت الي العرس !!! " سألني ..
قلت في ألم .."لكي أثبت للجميع اني نسيت او اتظاهر بالنسيان امامهم ..لكي اقول لصديقي القديم ..مبارك عرسك ..وامنيتي ان اقول له اعتني بها .."
قال في رفق يخالف عادته : " هي أملك الوحيد الآن "

__________  5 ______

هاتفه يهتز فوق المنضدة.. يرفعه ليرى المتصل ثم يعيده لوحدته ..ودخان سجائره يتناثر في الهواء ..ليصيب كاتبه العجوز بالسعال.. يرفع الكاتب منديله ويضعه أمام انفه في محاولة لتنقية بعض الهواء المحاصَر به .
لم يتوقف الهاتف عن الرنين .. واخيرا قرر ان يجيبه..
خطى بضع خطوات نحو النافذة مبتعداً عن أسماعنا
.. الآن سمعته يضحك .. وكأن عبوس وجهه قد خلعه فوق هذا الكرسي الأحمق
كأي جلاد يقهقه فوق ظهر فريسته المعلقة على الصليب الخشبي تتنفس انينها ودماءها كان يضحك....
من أين للبشر هذا الانفصام؟؟
أقنعة خلف الأقنعة ..نرتدي قناع السعادة في حضرة حدث ..وقناع توجعنا للأخرين في حدث آخر ..ونغضب في حضرة بعض الظروف ..ونمارس سطوتنا حين نمتلك السبيل  ..هكذا نمارس أدورانا فوق هذا المسرح المدجج بذكريات غاضبة تفوح رائحتها كلما مر وجه او ذكر اسم ..وحدها احزاننا خلف كل هذه الأقنعة ..

أسدل ستار الشرود حين سألني بعد ان غير نبرة صوته ليعيدها الى سيرتها الأولى

 " هل لديك أقوال أخرى ؟"
 ماذا يمكن ان أقول ..لو كانت الكلمات تمطرني النجاة لجعلت من جسد الحروف سحابا ..
!! كيف يمكن ان احاكم مرتين!! ..اي عدل ان اموت مرتين
هذا المساء ذبحني ثم دفع بي لأعدم هنا ..لماذا ذهبت؟!
ما كان عليّ ابدا ان انحني امامها بابتسامة جريحة . لأرى في عينيها هذا  الخوف الذي أعرفه ...          يا لغبائي..

 لم ينتظر اجابتي ..اغلق المحضر وطلب مني التوقيع ..
ثم نادى على الحارس ..ليعيدني الى الكهف مرة اخرى ..هذه المرة الثانية التي يحققون معي فيها ويسألوني نفس الاسئلة ..ربما هم مصابون بالزهايمر ..يفقدون مااقول سريعا ..

في منتصف الدرج تعثر الحارس المكلف بإعادتي الى الزنزانة فسقط حتى البداية ..تحركت بسرعة في اتجاهه لأرى مابه ..كان الأمر سيكون كارثيا لو فقد الوعي ربما اطلقوا عليّ الرصاص ظنا منهم اني اعتديت عليه لأتمكن من الفرار ..لولا تدخله في الوقت المناسب بإشارة التوقف لثلاثة من زملائه كانوا في الممر  لكنت طريح الفراش في احدى المستشفيات الحكومية وعلى باب الغرفة حارسان يثرثران مع الرائح والغادي عني ..وعن البطولة التي يقومان بها بحراسة مجرم خطير مثلي ..ولربما ادعيا قصة هربي واعتديا عليّ بالضرب ليُخرجا غضبهما من الضابط الذي اتى لاستجوابي وتوعدهما بالعقاب لعدم انضباطهما.
الحمد لله .. اعادني للكهف دون أي مشاكل أخرى ..لأقضي ليلتي الثانية بين هذه الجدران الموحشة
هنا حيث لا يمر الليل.. تنام الامنيات على وسائد النهاية .. ويتوقف العمر ليسكر من هذا الضجر الذي أصابه من  السير فوق النهايات المرسومة بدقة لأرتدي فيها عباءة القاتل ..لا أملك الا الجنون ..مددت يدي الى حديد النافذة الصغيرة التي تمنحنا الهواء ..بعض الهواء ..تعلقت فيه ..ثم صرخت للعالم الذي فقد الحواس كلها ..حاسة تلو الأخرى في حوادث مرت عليه .او ربما ولد هكذا
 " أنا بريء ..دعوني أذهب"
ضربات الحارس على بوابة الزنزانة وصراخ الزملاء الذين ايقظتهم بجنوني ..هما أمر بالتوقف.. ..
كيف ناموا هنا !! ..
لقد صار وجهي مرعبا من القلق وقلة النوم لو رآني الناس في الخارج لولوا مني فرارا وملأ الرعب عيونهم الآمنة .. أدمنت الخوف حيث لا طريق امام عيني الا الخوف من المجهول .. لقد صرت رهن كلمة من انثى ربما يتصارع الموت والحياة في معالمها الآن ..لربما دفعها حقدها عليّ وغضبها مني لإعطائي الدرس الأهم والأخير في حياتي .. ..
 يوم جديد .. وانا في دوامة الانتظار ..
 لحسن حظي أخطأ النصل قلبها ..ثمانية واربعون ساعة تحدد مصير الحياة ..هكذا قال الطبيب امامنا بعد ان انتهت الجراحة ..
 لم يعرف الطبيب حينها ان الثمانية والاربعين انما تحدد مصيري انا
 ________  6 ________
جدران بيضاء ..وهواء نقي ..ورائحة الحياة تفوح من كل شىء ..وأمي تجلس بالقرب مني ..وجهها لايحمل الحزن ..هل انا في العالم الآخر؟؟  .. هل نفذوا حكم الاعدام بهذه السرعة ؟ !!
هل أدخلوا قاتلا الجنة ؟!!

لا أتذكر إلا صراخ الحارس باسمي وانتفاضتي من الداخل تلبية للنداء .. وجسد لا يستجيب ..
وسيري سكرانا لا اعرف اين نتوقف ...وهذا الممر والاشباح التي تتحرك فيه.. لا اشياء واضحة ..قد تاهت معالم الاشياء ..والحارس يدفعني لأستمر ..

" حمدا لله على سلامتك يا بني .."
تمرر يدها على شعري ..وانا لازلت في حيرتي. افتش عني داخل الاحداث...تساءلت
" ماذا حدث يا أمي ..أين أنا؟؟ "

 : قالت لي
 " لقد سقطت مغشيا عليك ..كنت قريبة منك وتعجبت كيف لا تراني ..كنت احدثك لأبشرك بما عرفت لكنك لم تسمع اي شيء ..لقد حررتك أسماء ..شهدت بأنك برئ ..وان هذا الرجل هددها اكثر من مرة ..ودائما كان يقسم على قتلكما انت وهي " "
أدرت وجهي ..جهة النور القادم من النافذة ..وعلى شفتي سؤال يموت
لم استطع ان احرر خوفي عليها ..لم أستطع ان أسأل عنها
ما أقبح الحياة حين تسري اليك في وريد الوحدة ..وفراق الأحبة


انتهى ..

28/ أكتوبر /2012

هناك 7 تعليقات:

  1. علي...أنت حقًّا كاتب رائع...ونتمنّى دائمًا قراءة البقيّة...

    ردحذف
  2. الرائع هو وجودك سيدتي ..دمت بخير ..

    ردحذف
  3. وللحديث بقيه نحن فانتظارها

    ردحذف
  4. غير معرف..

    سعيد بمرورك ..دمت بخير ..

    ردحذف
  5. أسلوبك القصصي رائع يا علي، كانت المرة الأولى التي أقرأ لك فيها غير القصائد، أسلوب مميز وشيق جدًا ، لم أستطع التوقف قبل أن أخطو أعتاب النهاية، لك تقديري.

    ردحذف
  6. سعيد برايك ومرورك يانسمة ..دمت بكل خير ..

    ردحذف
    الردود
    1. اسلوب رائع وحديث عذب جدا بارك الله فيك

      حذف